معرفة

الولع بالهزائم: كيف أحببتُ اللطميات رغم أنني مسيحي؟

يقول فريدريك نيتشه: «لقد اخترعنا الفن حتى لا نموت من الحقيقة»، لماذا لجأت الشعوب إلى اللطميات والتراجيديا؟

future طقوس العراقيين الشيعة في عاشوراء

«الفن التراجيدي هو ذلك التأكيد الأعلى للحياة، حتى في أعماق الألم والمعاناة، فإنه يكشف أمام أعيننا رؤى عميقة من الجمال».

—فريدريك نيتشه، فيلسوف ألماني

بدأت القصة عندما أرسل لي أحد أصدقائي المقربين، منذ سنوات، مقطعاً مصوراً لإحدى اللطميات العراقية لأستمع إليها، بداية لم أستستغ ما سمعته، شعرت بأن الأجواء غريبة وكذلك الكلمات، كما أنني لم أكن أفهم مفردات اللهجة العراقية بوضوح.

لكن مع مرور الوقت، ومع توالي سماع اللطميات التي أرسلها لي صديقي، أخذ ذلك الانطباع في التغير تدريجياً، تسرَّب إلى نفسي شعور يربطني بتلك الكلمات والأجواء الجنائزية الممتلئة بالنشوة، حتى أصبح الاستماع إلى اللطميات جزءاً من روتيني اليومي في سماع الموسيقى، وليست اللطميات العراقية فقط، بل كذلك الفارسية المترجمة إلى العربية.

تطور الأمر وأخذت دور صديقي لاحقاً؛ إذ أصبحت أنا من يرسل اللطميات إلى أصدقائي، المسلمين منهم والمسيحيين، ولم أتفاجأ كثيراً حينما نالت اللطميات إعجاب معظمهم، فالهزيمة هي السمة المميزة لجيلي من أبناء الوطن العربي، جيل الثمانينيات والتسعينيات، جيل الأحلام المبتورة والهزائم التراجيدية، وليس هنالك ما يعبر عن هذه المشاعر الكامنة في جوف النفوس أكثر من اللطميات، بكل ما تحمله من رمزيات عابرة للسردية الدينية.

دفعني ذلك الافتتان الذي استحوذ عليَّ نحو البحث عن إجابات للأسئلة التي دارت في مخيلتي حول طبيعة اللطميات، التاريخية والدينية، ورمزياتها الكلية، وكذلك نقاط الاتصال بينها وبين الطقوس المسيحية، التي بالطبع شكلت جزءاً كبيراً من رؤيتي للعالم.

كيف بدأ اللطم؟

نشأت اللطميات في العراق مباشرة عقب واقعة كربلاء الشهيرة التي استشهد فيها الحسين بن علي بن أبي طالب عام 61 هجرية الموافق لعام 680 ميلادية، ولم تكن اللطميات في تلك الحقبة تشبه الشكل الذي أصبحت عليه اليوم، حيث كانت وسيلة للتعبير عن الحزن والأسى على مقتل الحسين، عبر نصوص شعرية شفوية تُنشَد في مجالس خاصة.

ثم لاحقاً تطورت أشكال اللطمية خلال العصر العباسي؛ إذ بدأ إدخال العناصر الموسيقية واللحنية عليها، فتحولت إلى ما يشبه الأناشيد الدينية المنغمة. قبل أن تصل إلى ذروة تألقها خلال العصر الصفوي، حين أصبح إحياء ذكرى عاشوراء جزءاً من الهوية الثقافية الشيعية، وكانت اللطميات في القلب منها.

أخذت اللطميات في الاتجاه نحو الشكل الطقسي خلال عصور الدولة الصفوية والفاطمية، حيث ارتبطت مراسم إقامتها بذكرى عاشوراء، ونُظمت في مواكب رسمية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الطقوس الدينية الشيعية، كما دخل عليها أشكال موسيقية أكثر تعقيداً مثل الطبل.

ظلت اللطميات الحسينية حاضرة في الطقوس الدينية الشيعية على مدى الزمن وسيلة للتعبير عن المأساة الكبرى، مأساة قتل الحسين حفيد النبي محمد، ولكن رغم ذلك لم تخرج شعبيتها عن الأوساط الشيعية باعتبارها طقساً دينياً، كان ذلك حتى مطلع القرن الحادي والعشرين.

مع مطلع القرن الحادي والعشرين ظهر الرادود الأشهر ربما، باسم الكربلائي، الذي أخذ على عاتقه مهمة تحويل اللطميات إلى فن يلمس قلوب كل المكسورين والمهزومين باختلاف أديانهم ومعتقداتهم، حتى وإن كان ذلك دون قصد منه، وقد أحدث نقلة ثورية في مستقبل اللطميات من حيث حجم اتساع جمهوره، لدرجة ظهور دعابة على مواقع التواصل الاجتماعي لاحقاً تقول إن باسم الكربلائي استفاد من موت الحسين أكثر من يزيد بن معاوية قائد الجيش الأموي [MM1] الذي قتل الحسين.

من هنا بدأت اللطميات تشهد تحولاً كبيراً على مستوى الشعبية والانتشار، كان ذلك بسبب تطور أساليب التعبير الشعرية المستخدمة في كتابة اللطميات التي باتت أقرب إلى الأغاني الحماسية والأناشيد الثورية، بالإضافة إلى إدخال موسيقى أكثر تطوراً وشمولاً، وبجانب تقنيات التصوير والإخراج الحديثة التي أضفت لمحة ملحمية أخاذة على تجمعات إقامة اللطميات، المعروفة بالحسينيات.

كل ذلك يضاف إليه الصوت العراقي الرخيم واللهجة العراقية القوية الصارمة ومخارج ألفاظها الثقيلة الخشنة، فكانت التوليفة النهائية مثالية لإخراج منتج فني إنساني عابر للثقافات.

المسيح والحسين

بحكم مولدي في مصر نشأت في أسرة مسيحية أرثوذكسية محافظة، حيث يحتل الدين من المجتمع المسيحي المصري مكانة شديدة المركزية تتمحور حولها ربما معظم حياة الأقباط؛ إذ كان عليَّ الذهاب أسبوعياً مرة واحدة - على الأقل - إلى الكنيسة، وتزداد الزيارات الكنسية خلال العطلات الصيفية، التي قد تصل إلى الحضور يومياً إن كنت شديد الالتزام.

ذلك ربما ما أعدَّني ذهنياً ونفسياً لفهم الطبيعة الشعورية للتعاطي مع اللطميات لاحقاً، فالطقوس القبطية الأرثوذكسية على وجه التحديد تتشابه في كثير من المواضع مع طقس اللطميات الشيعي.

إذ إن الطقس القبطي الأرثوذكسي المرتل يميل في معظمه إلى الألحان الحزينة والكلمات التراجيدية، إما حزناً على المسيح الذي مات على الصليب بحسب العقيدة المسيحية، أو سخطاً على طبيعة النفس البشرية الميَّالة إلى ارتكاب الخطايا والشرور، تلك الخطايا التي يفسرها آباء الكنيسة القبطية بأنها خيانة لدم المسيح الذي مات مصلوباً من أجل خلاص البشرية.

توجه السردية نفسها دوماً إلى اللحظة الأهم، لحظة موت المسيح، تلك اللحظة التراجيدية شديدة الحساسية التي تتمحور حولها العقيدة المسيحية برمتها، ليس فقط على المستوى العاطفي، بل كذلك على المستويات الفلسفية واللاهوتية، كأنها دائرة مغلقة تنتهي دائماً إلى حيث بدأت.

كذلك تنظم الكنيسة القبطية طقساً سنوياً يتشابه في العديد من الجوانب مع ذكرى إحياء استشهاد الحسين، وهو ما يعرف بالبصخة المقدسة، الذي يتزامن سنوياً مع أسبوع الآلام، وهو الأسبوع الذي يسبق ذكرى صلب المسيح.

في هذه المناسبة تُكسَى الكنائس بالستائر السوداء، ويمنع إقامة القداسات، وهو الطقس الأهم في الديانة المسيحية، وتقتصر النشاطات الطقسية الكنسية على الاجتماع من أجل ترتيل وإنشاد المرثيات، حزناً على المسيح وتأكيداً لقيمة التضحية الهائلة التي قدم فيها المسيح نفسه فداءً للبشرية نتيجة للأخطاء التي وقع فيها الإنسان الخاطئ المغرور الشرير، مخلفة حالة شعورية عميقة تقود الإنسان إلى الإحساس بالذنب والندم وانعدام القيمة.

لكن ما يميز اللطميات الشيعية عن طقوس الكنيسة القبطية، برغم التشابهات الرمزية المتعددة، أن اللطميات تخلط مشاعر الندم والحسرة بحماسة جياشة محفزة للأدرينالين؛ إذ إن الإيقاع الأساسي لإنشاد اللطميات، هو اللطم! صوت لطم مئات الحاضرين على صدورهم بعنف وإصرار، إيقاع ثابت منتظم، يترك في النفس شعوراً سحرياً عجيباً، لا تستطيع إلا أن تستسلم أسيراً لجمالياته الملغزة.

سحر الرمز

تنطوي اللطميات على جميع العناصر التي تجعل منها فناً مكتملاً من حيث كونها أسلوباً جمالياً يعبر عن مشاعر وأفكار معينة يتفاعل معها المتلقي، فهي مكونة من نصوص شعرية تُنشَد على إيقاع لحني مميز، تعبر عن مشاعر الندم والحزن على مقتل الحسين، بجانب امتداح صفاته وأخلاقه الحسنة وتضحياته العظيمة.

إلا أن تلك العناصر لا تعد هي المسئولة عن توسيع شعبية اللطميات، بل ما ترمز إليه، فالفن تكمن قوته الأساسية في تحويل التعبير الجمالي إلى رمز عابر للزمان والمكان.

كان الفيلسوف اليوناني أرسطو هو أول من تناول مسألة التطهر من خلال الفن، أو ما يطلق عليه الكاثارسيس، حيث أشار في كتابه فن الشعر إلى أن الفن، خاصة الفن التراجيدي، يمكن أن يحدث تأثيراً تطهيرياً في نفوس المتلقين يساعدهم في التخلص من المشاعر السلبية مثل الخوف والشفقة والشعور بالذنب.

تطور ذلك الطرح وأخذ في النمو عبر تاريخ الفلسفة الطويل، حيث تناوله العديد من الفلاسفة اللاحقين على أرسطو، مثل أفلاطون وكانط وهيجل ونيتشه وفرويد، مؤكدين جميعاً باختلاف رؤاهم أن الفن يحمل في طياته رموزاً معقدة تستطيع الصمود أمام اختبار الزمان والمكان؛ لأنها تعبر أصلاً عن مضامين إنسانية كامنة في أعماق النفس البشرية.

لكن ربما يعود الطرح الأكثر شمولاً ووضوحاً إلى عالِم النفس السويسري وأحد مؤسسي علم النفس التحليلي كارل يونج، الذي ذهب إلى أن الفن يعبر عن تجارب ورموز عميقة متجذرة في اللاوعي الجمعي للبشرية، هذه الرموز تعد تجليات لما أطلق عليه يونج النماذج الأصلية أو الأركيتايب، التي تمثل تجارب ومشاعر أساسية يشترك فيها جميع البشر باختلاف ثقافاتهم، مثل الظلم والتضحية والصراع بين الخير والشر، حيث يصبح تفاعل الإنسان مع هذه الرموز من خلال الفن تفاعلاً مع جانب عميق من ذاته، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى نوع من التطهر من خلال الفهم العميق للذات المحتجبة.

كما أشار يونج إلى أن الفن يمكن أن يكون وسيلة لمواجهة ما أطلق عليه الظل في النفس البشرية، وهو الجانب المكبوت من النفس، حيث يصبح الفن وسيلة للوقوف بشجاعة أمام المشاعر المكبوتة والتعبير عنها في شكل رموز غير مباشرة، تلك الآلية التي تساهم في تحقيق الاستشفاء والتوازن النفسي.

تضعنا تلك الأفكار أمام طبيعة اللطميات والسر وراء عبورها لحاجز الطقس الديني خلال السنوات القليلة الماضية، فكم من هزيمة مُني بها أبناء شعوبنا العربية! وكم من حلم طموح تحطم وتحول إلى كابوس مرعب! وكم من مأساة غلفت تاريخنا المعاصر!

هنا تصبح الحاجة إلى الفن التراجيدي ضرورة ملحة، ليس فقط من أجل التطهُّر والاستشفاء، بل من أجل الحياة نفسها، وقد عبر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه عن ذلك في كتابه مولد التراجيديا، حيث أشار إلى أن التراجيديا تعلم الإنسان قبول الحياة بمآسيها وانكساراتها وهزائمها، بدلاً من الهروب منها، أو كما قال هو أيضاً: «لقد اخترعنا الفن حتى لا نموت من الحقيقة».

# فن # فلسفة # فلسفة

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
ما الذي يخبرنا به «الغرف الحمراء» عن السفاحين ومهاويسهم؟

معرفة